طلعت علينا وزارة التربية بتصنيف التربية الإسلامية ضمن ميدان العلوم الاجتماعية، فهل يصح من الناحية المنهجية الصرفة والناحية المعرفية (الابستيمولوجية) البحث في هذا التصنيف؟ وما خلفية هذا التصنيف؟
التصنيف بالأساس مبناه اعتبار الدين ظاهرة اجتماعية يولد ويترعرع في سياقات تاريخية اجتماعية، ذلك أنّ العلوم الاجتماعية وبالرغم من حرصها وادعاءاتها العريضة على الاستقلالية في أسسها المعرفية الابتستيمولويجة، ليست مستقلة عن سياقاتها الفكرية واللغوية والمعرفية والإيديولوجية، بل والخضوع لرغبة المتحكّم في تدفق المعرفة والمال في السياقات الدولية، و... أي أنّها متحيّزة إلى درجة تصل أحيانا حد القرف، بمعنى أنّ هذا الكلام قد يصح من وجه إذا كنا بصدد الكتابة عن دين تلاعبت به الأيدي، وعدّله البشر في سياقات تاريخية مخصوصة لها ما يبررها في الفضاءات التي نشأت فيها، والذي يكتب عن الإسلام بهذا المنطق لا يعرف الإسلام، أو يريد أن يعامل الإسلام معاملة الديانات التي تلاعبت بها الأيدي، لهذا قلت وكتبت غير ما مرّة أنّ التعامل مع الإسلام بوصفه ظاهرة اجتماعية هو استيراد لنظرة غربية للدين المتداول في الغرب في التعامل مع الإسلام، وهو استلاف غير موفق منهجيا ومعرفيا في التعامل مع الإسلام، الذي تكفّل الله بحفظ كتابه المؤسس (القرآن الكريم).
إنّ العلوم الاجتماعية تستمد من سير الناس المعرفي في مضمونه الاجتماعي في سياقاتهم الاجتماعية والتاريخية بخلفية فكرية مخصوصة تدعي الحيادية، فهو انتاج الناس في التاريخ، لهذا فهو خبرة ومعرفة خبروية، تاريخية، أما الإسلام فأصول الاستمداد واضحة فيه الكتاب والسنة ولا تستمد من تجربة الناس، بل نراجع تجربتهم بما ورد في الكتاب، قال تعالى: "فإن تنازعتم في شيء فردوه إلى الله والرسول إن كنتم تؤمنون بالله واليوم الآخر"، وهو الذي عبّر عنه الإمام الرئيس عبد الحميد بن باديس بالإسلام الذاتي مقابل الإسلام الوراثي، لأنّ مصدر المراجعات واضح، فضلا عن ذلك لو قبلنا إدراج الإسلام في العلوم الاجتماعية (وهو غير مقبول معرفيا ومنهجيا، أي لو فرضنا ذلك جدلا) لنا أن نتساءل، أين ننزل أحكام الترتيل في العلوم الاجتماعية، أين ننزل أحكام الزكاة، أين ننزل أحكام المواريث، أين ننزل أحكام الزواج، والهبة والصدقة والوصية، والبيوع والربا و... فضلا عن ذلك علوم الحديث، علم الفقه، علم أصول الفقه، علم المقاصد، علم معارف الإيمان، علم الزهد و... وهل نجد في العلوم الاجتماعية ما ينفعنا في فهم كتاب ربنا من نحو قوله تعالى "أفلا ينظرون إلى الإبل كيف خلقت وإلى السماء كيف رفعت وإلى الجبال كيف نصبت وإلى الأرض كيف سطحت فذكر إنما أنت مذكر"، هل يمكن أن نعرف تركيبها في العلوم الاجتماعية، وقوله تعالى: {قل سيروا في الأرض فانظروا كيف بدأ الخلق ثم اللّه ينشئ النشأة الآخرة} هل في العلوم الاجتماعي ما ينفع فيها...
لو تمادينا في الأمثلة على تدبّر كتاب ربنا لقلنا إنّ كل ميادين العلم هي ميادين التعرف على صفات الله وأفعاله وحكمته ومطلق إرادته، وبالتالي يصبح الإسلام هو كل العلوم، لأنّها بالمختصر المفيد معرّفة بالله، ومن ثمّ كان الأوفق أن نصنفها بحسب العلم الذي نشتغل عليه، لكن ذلك يضيّع الميزة المركزية (المحورية) للدين ويجعله تابعا لجهود الناس في التاريخ كما يريده المقتنعون بالطرح الأوروبي في النظر إلى الدين، لهذا فالتربية الإسلامية والعلوم الشرعية المنبثقة عن النصوص المؤسسة لا تدرج في العلوم الاجتماعية ولا في العلوم البيولوجية ولا في العلوم الفلكية ولا في العلوم البحتة، ولا في العلوم الفلسفية، ولا...، بل هو دين يغطي كل ميادين الفعل الإنساني "قل إنّ صلاتي ونسكي ومحياي ومماتي لله رب العالمين لا شريك الله"، وواضح أنّه يستغرق كلّ ميادين الفعل الإنساني، وربنا هو الذي سماها دين "إنّ الدين عند الله الإسلام"، دين دين دين هل تعون ما تقرأون وتسمعون: دين، دين، دين... والذي لا يقبل ذلك يريد أن يجعل (استغفر الله) الدين بنصوصه المؤسسة (الكتاب والسنة وتوابعهما) تابعة للبشر، لأنها - بحسب تصوّرهم - علوم أنتجها البشر في اجتماعهم لأجل تسيير اجتماعهم، ولا يقول بذلك من يؤمن بالله ربا وبمحمد (صلى الله عليه وسلّم) رسولا وبالقرآن كتابا منزّلا، لهذا يتعيّن أن نستعيد الفصل (تمييز التربية الإسلامية عن ميدان العلوم الاجتماعية) لما في الوصل بين التربية الإسلامية واللغة والتربية المدنية من تلبيس يؤثر في اللاحق على نظرة التلميذ إلى الدين الإسلامي نفسه، وأخيرا أنأ لا أمنع أن ينظر بعض "المثقفين" بحسب الحاضنة التي تربوا فيها وبحسب المحاضن المعرفية التي اقتبسوا "أنوارها" إلى الدين الإسلامي نظرة الاستشراق الفرنسي المشغل عن الإسلام، فهذا شأنهم وشأن من يقلدون، ولكن لا أقبل لأبنائي أن يصابوا بهذه اللوثة المعرفية التضليلية التي تستأصل استقلالهم وتجنّدهم في مسلك قبول الغزو وفقد المناعة الحضارية التي لا يؤمن الفرنسيون أنّها حق للجزائريين، الفرنسيون ومن لفّ لفّهم مِمَنِ يعد الفرنسة هوية ثابتة للمجتمع الجزائري وهو ما أرفضه واطعّم أبنائي ضدّه ما حييت.
والله من وراء القصد وهو يهدي السبيل.
بقلم: عمار جيدل الشروق نيوز